فصل: القَوْل فِيمَا يَقع بِهِ أحد الْخَبَرَيْنِ اللَّذين نقلا آحادا على الثَّانِي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التلخيص في أصول الفقه



.فصل:

اعْلَم أَن الأولى بالشيخ أَن يتَجَنَّب التهم وموجبات الظنة فَإِذا علم أَنه لَو بعض خَبرا رَوَاهُ مرّة نَاقِصا وَمرَّة تَاما فيستوطن النقلَة بِهِ إِلَى تهمته ويعرفونه بِسوء الْحِفْظ لاعتقادهم منع ذَلِك وَإِذا تساوى الظَّن بِهِ أعلوه وَتركُوا مَا رَوَوْهُ وعطلوه فَإِذا علم ذَلِك مِنْهُم فَلَا يَنْبَغِي أَن يبعض الحَدِيث عَلَيْهِم، فَإِنَّهُ لَو فعله كَانَ لبسا إِلَى مَا يكَاد يُؤَدِّي إِلَى تَعْطِيل أَخْبَار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأَما إِذا علم أَنه وَإِن بعض الْخَبَر فَلَا جرح عَلَيْهِ لَو بعض.

.فصل:

اخْتلف النَّاس فِي أَن الرَّاوِي لَو أراد نقل الحَدِيث بِالْمَعْنَى، وَترك لفظ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَفظ شَيْخه، فَهَل يجوز لَهُ ذَلِك؟
فَمنهمْ من منع ذَلِك، وَأوجب نقل أَلْفَاظ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حرفا حرفا من غير إخلال وتبديل.
وَمِنْهُم من جوز النَّقْل على الْمَعْنى وإِلَيْهِ صَار مَالك وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي كتاب الرسَالَة.
وَلَكِن فِيهِ تَفْصِيل، وَهُوَ أَن نقُول: إِن بدل اللَّفْظ فِيمَا يقطع عَن الله تَعَالَى فَإِن التبديل لَا يُغير الْمَعْنى فَلَا حرج عَلَيْهِ فِي هَذَا النَّوْع من التبديل.
وَذَلِكَ مثل أَن يُبدل قَوْله: قَامَ بقوله: "انتصب ناهضا"، وَقَوله قعد بقوله جلس، وَقَوله علم بقوله عرف إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يعلم قطعا أَنه لم يُبدل تَبْدِيل اللَّفْظ معنى.
وَأما إِذا جوز أَن الْمَعْنى يتبدل بتبديل اللَّفْظ، أَو علم أَنه لَا يتبدل بِاجْتِهَاد واستدلال وَهُوَ يجوز أَن يُؤَدِّي اجْتِهَاد غَيره إِلَى خلاف مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده، فَلَا يسوغ هَذَا الضَّرْب من التبديل.
وَكَذَلِكَ من كَانَ جَاهِلا بمواقع الْخطاب، وَيجوز أَن يفضى بتبديله إِلَى تَغْيِير فَلَا نجد إِلَى ذَلِك سَبِيلا.
وَالدَّلِيل على جَوَاز التبديل عِنْد الْأَمْن من تَحْويل الْمَعْنى اتِّفَاقهم على جَوَاز تَرْجَمَة أَخْبَار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأهل اللُّغَات الْمُخْتَلفَة، وَهَذَا تَغْيِير اللَّفْظ، وَهُوَ أعظم من تَبْدِيل الْكَلِمَة الْعَرَبيَّة بِمِثْلِهَا.
وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك مَا قُلْنَاهُ: أَن الْمَقْصُود بِنَقْل أَلْفَاظ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَانِيهَا وَمَا فِيهَا من قَضِيَّة التَّكْلِيف، وَلَيْسَ الْمَقْصُود أَعْيَان الْأَلْفَاظ، فَإِذا علم قطعا أَدَاء الْمَعْنى مَعَ تجنبه الريب فِي مواقع الْخلاف، فقد أدّى الْمَقْصد.
وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن الشَّاهِد إِذا أدّى مَا يحمل الشَّهَادَة عَلَيْهِ، فَلَا يُكَلف فِيهِ أَدَاء صور الْأَلْفَاظ، وَإِنَّمَا الْمَأْخُوذ، عَلَيْهِ أَدَاء الْمَعْنى الْمَقْطُوع بهَا.
فَأَما الدَّلِيل على منع الْجَاهِل بمواقع الْخطاب والمستريب من التبديل فالإجماع على أَنه يعتضد أَن شَرط النَّقْل أَن يكون النَّاقِل قَاطعا بِمَا نقل، فَهَذَا يقْدَح فِي الْقطع بِالنَّقْلِ.
فَإِن اسْتدلَّ من أوجب نقل الْأَلْفَاظ بِأَعْيَانِهَا وَإِلَيْهِ صَار مُعظم أصحاب الشَّافِعِي رَحمَه الله وَإِن كَانَ الَّذِي يدل عَلَيْهِ كَلَامه فِي الرسَالَة يجوز التبديل على الشَّرْط الَّذِي ذَكرْنَاهُ.
فَإِنَّهُ قَالَ رَضِي الله عَنهُ: يجب أَن يروي الْمُحدث بِحُرُوفِهِ كَمَا سَمعه وَلَا يحدث بِهِ على الْمَعْنى وَهُوَ غير عَالم بِمَا يحِيل مَعْنَاهُ لما روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ رحم الله امراء سمع مَقَالَتي فوعاها فأداها كَمَا سَمعهَا فَرب مبلغ أوعى من سامع وَرب حَامِل الْفِقْه وَلَيْسَ بفقيه وَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ.
فَهَذَا لَا حجَّة لَهُم فِيهِ فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَوْمَأ إِلَى الْعِلَل الْمَانِعَة من التبديل، لما ذكر من اخْتِلَاف الْأَحْوَال وتباين النَّاقِل وَالْمَنْقُول إِلَيْهِ فِي الصِّفَات، فَدلَّ سِيَاق الْخطاب على ان التبديل إِذا كَانَ يَقْتَضِي قطعا أَو توقعا أحَال الْمَعْنى فَلَا سَبِيل إِلَيْهِ، وَهَذَا مَا نقُول بِهِ، على أَن هَذَا الحَدِيث قد قوبل بِمَا روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: «إِذا أصبت الْمَعْنى فَلَا بَأْس» وَهَذَا عَام فِي الْبَلَاغ عَنهُ وَعَن غَيره، على أَنه لَا يبلغ مبلغ الْخَبَر الأول فِي الصِّحَّة.
فَإِن قَالُوا من الْأَحْكَام مَا يُرَاعى فِيهَا أَعْيَان الْأَلْفَاظ كالتكبيرات فِي الصَّلَوَات وَنَحْوهَا من الدَّعْوَات فَلَا سَبِيل إِلَى تَغْيِير الْأَلْفَاظ.
قُلْنَا: هَذَا تلبيس، وَذَلِكَ أَن مَا أشرتم إِلَيْهِ مَتى أوجب قولا ولفظا فَيتَعَيَّن نقل الْأَلْفَاظ وَلَيْسَ إِذا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم «صلوا» فَإنَّا نعلم أَنه لَيْسَ الْمَقْصُود لفظ يذكر، وَإِنَّمَا الْمَقْصُود امْتِثَال مَعْنَاهُ، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى جَحده فافترق الْأَمْرَانِ.

.باب يجمع فصولا وجملا من أَلْفَاظ الصَّحَابَة وَذكر الِاخْتِلَاف فِيهَا:

اتّفق من تقدم من عُلَمَاء الْأُصُول على أَن الصَّحَابِيّ إِذا قَالَ: أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهَذَا يحمل على الْأَمر، وَلَا يشْتَرط أَن ينْقل لفظ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِذا لم يَنْقُلهُ يتَوَقَّف، وَلَكِن إِذا رددنا الْأَمر بَين الْإِيجَاب والاستحباب فَيتَوَقَّف فيهمَا.
فَإِن قيل: ألستم قُلْتُمْ إِن الْأَمر قد يرد على معنى الْحَظْر تَارَة، وعَلى معنى الْإِبَاحَة أُخْرَى؟.
قيل: هَذِه غَفلَة عَظِيمَة من مَذْهَبنَا، فَإِن الْأَمر لَا يتَرَدَّد إِلَّا بَين النّدب وَالْإِبَاحَة، فَإِن حَقِيقَة اقْتِضَاء الطَّاعَة كَمَا وصفناه، وَإِنَّمَا يتَرَدَّد بَين الْأَبْوَاب الَّتِي ذكرتموها للصيغ، وَهِي عِبَارَات، وَلَيْسَت بأوامر على الْحَقِيقَة.
فَإِذا قَالَ الصَّحَابِيّ أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حمل ذَلِك على الْأَمر الْحَقِيقِيّ.
فَإِن قيل: إِذا كَانَت الصِّيَغ لَا تدخل عنْدكُمْ فَبِأَي وَجه يتَوَصَّل الصَّحَابِيّ إِلَيْهِ؟
قُلْنَا: الصَّحَابِيّ يتَوَصَّل بقرائن الْأَحْوَال الَّتِي يقارنها الْعلم الضَّرُورِيّ على مجاري الْعَادَات وَقد سبق تقريرنا ذَلِك بِمَا فِيهِ كِفَايَة.
فَإِن قيل: فَإِذا لم ينْقل اللَّفْظ فَمَا يؤمننا أَن يكون قد سمع لفظا واعتقده أمرا وَلَيْسَ الْأَمر على مَا اعتقده عِنْد بعض الْعلمَاء.
قُلْنَا: الثِّقَة الْعدْل إِذا نقل شَيْئا مُطلقًا فَلَا يتَعَرَّض لتقرير وُجُوه الْبطلَان فِيهِ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الشَّاهِد إِذا شهد على بيع أَو إِجَارَة أَو غَيرهمَا من الْعُقُود لَا نكفله أَن ينعَت لَهَا وَجه الصِّحَّة فِيمَا يشْهد عَلَيْهِ بل يَكْتَفِي بِإِطْلَاقِهِ القَوْل.
وَالتَّحْقِيق فِيهِ أَن الَّذِي ينْقل من تَمام عَدَالَته ومعرفته أَن لَا ينْقل على اعْتِقَاده مَعَ تجويزه الِاخْتِلَاف، فَإِنَّهُ لَو فعل ذَلِك كَانَ مُجْتَهدا، وَلم يكن نَاقِلا موثوقا بِهِ، وَلَو عرفنَا ذَلِك من ناقل كَانَ مطعنا فِيهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَن يُبْدِي مَا لَو تحقق كَانَ طَعنا فِي الصَّحَابِيّ.
ويحكى عَن داؤد من أصحاب الظَّاهِر أَنه صَار إِلَى التَّوَقُّف فِي قَول الصَّحَابِيّ أمرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد أوضحنا وَجه الرَّد عَلَيْهِ.

.فصل:

فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا قَالَ الرَّاوِي الصَّحَابِيّ أمرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهَل يحمل ذَلِك على الْعُمُوم، حَتَّى يعم كَافَّة أهل الاعصار.
قُلْنَا: هَذَا مِمَّا اخْتلف فِيهِ الْعلمَاء، فَمنهمْ من حمله على الْعُمُوم، وَمِنْهُم لم يحملهُ على الْعُمُوم. وَالصَّحِيح عندنَا أَن نفس اللَّفْظ لَا يحمل على الْعُمُوم، وَلَكِن إِن اقْترن بِهِ من حَال الرَّاوِي مَا يدل على أَنه أَرَادَ بِهِ تثبيت الشَّرْع عُمُوما فَيحمل عَلَيْهِ بِالْقَرِينَةِ حِينَئِذٍ وَهَذَا مِمَّا سبق منا إيضاحه فِي مسَائِل الْعُمُوم.

.فصل:

اخْتلف الأصوليون من أصحاب الشَّافِعِي وَغَيره فِي مسألتين:
إِحْدَاهمَا أَن الصَّحَابِيّ إِذا قَالَ: أمرنَا بِكَذَا و نهينَا عَن كَذَا، فَهَل يحمل ذَلِك على أَمر الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنَهْيه؟
فَذهب بَعضهم إِلَى انه لَا يحمل عَلَيْهِ، لجَوَاز أَن يَعْنِي بقوله أمرنَا بعض الْخُلَفَاء أَو اعْتِقَاد أَمر الله تَعَالَى بِظَاهِر يتَمَسَّك بِهِ من الْكتاب.
وَمِنْهُم من قَالَ يحمل ذَلِك على امْر الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَإِلَيْهِ صَار الْأَكْثَرُونَ.
وَالَّذِي يجب أَن نَخْتَار فِي ذَلِك ان اللَّفْظَة مترددة، فَإِن تعرت عَن الْقَرَائِن وقارنها الِاحْتِمَال فَلَا يحمل على أَمر الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَإِن اقْترن اللَّفْظ من قيد مقَال، أَو قرينَة حَال فَيجْرِي على قضيتها حِينَئِذٍ.
والمسألة الْأُخْرَى الَّتِي اخْتلف الْعلمَاء فِيهَا أَن يَقُول الصَّحَابِيّ من السّنة كَذَا أَو كَذَا.
فَمن الْعلمَاء من أصحاب الشَّافِعِي وَغَيره من يحمل ذَلِك على سنة رَسُول الله، وَالْقَوْل فِيهِ مَا قُلْنَا من اعْتِبَار الْقَرَائِن.

.فصل:

فَإِن قَالَ قَائِل: قد كثر مِنْكُم إِطْلَاق الصَّحَابِيّ فِيمَا قدمتموه من الْأُصُول، فَمن الصَّحَابِيّ وَمَا وَصفه؟
قُلْنَا: إِن رددنا إِلَى حَقِيقَة اللُّغَة فالصحابي مُشْتَقّ من الصُّحْبَة، فَكل من صحب فَهُوَ صَحَابِيّ، وَلَا يخْتَص ذَلِك بدهر وزمن، بل اصل اللُّغَة يَقْتَضِي تَحْقِيق الِاسْم وَإِن تحققت الصُّحْبَة فِي لَحْظَة وَسَاعَة، غير ان الَّذِي غلب فِي الِاسْتِعْمَال أَن من يصحب رجلا لَحْظَة فِي عمره لَا يُسمى فِي الْإِطْلَاق من أصحابه، بل إِنَّمَا يُطلق ذَلِك فِي عرف الِاسْتِعْمَال على من طَالَتْ صحبته فِي مُدَّة ممتدة لَا تنضبط مبلغها.
فَكل من صَاحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَحْظَة اقْتَضَت اللُّغَة تَسْمِيَته صحابيا، بيد أَن عرف الِاسْتِعْمَال يمْنَع ذَلِك فِي من طَالَتْ صحبته.
فَإِن قيل: فَهَل تَقولُونَ أَن من عاصر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ فِي دهره وعصره فَهُوَ صَحَابِيّ؟
قُلْنَا: لَا نقُول ذَلِك فَإِنَّهُ يعاصر الرجل من لَا يرَاهُ أصلا وَلَا يتَّفق بَينهمَا قَرَار لتباعد الديار وَقد يرَاهُ ويصحبه وَهَذَا مَا لَا خَفَاء بِهِ.

.باب القَوْل فِي إرْسَال الحَدِيث، وَمَعْنَاهُ، وَذكر الِاخْتِلَاف فِي وجوب الْعَمَل بالمراسيل:

إرْسَال الحَدِيث: هُوَ أَن يضيف الْإِنْسَان الحَدِيث إِلَى من لم يلقه، من غير أَن يذكر من بَيته وَبَينه، كالتابعي يضيف الحَدِيث إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَكَذَا التَّصْوِير فِي عصرين بَينهمَا ثَالِث لم يتَعَرَّض لَهُ أهل الْعَصْر الْأَخير، ثمَّ قد يُرْسل الْمُرْسل من غير تعرض أصلا، وَقد يتسبب بالتعرض لَهُ، وَقد يذكر رجلا وَلَا يُسَمِّيه مثل أَن يَقُول عَن رجل عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَهَذَا كُله من الْمَرَاسِيل.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي وجوب الْعَمَل بِهِ.
فَذهب جُمْهُور الْفُقَهَاء إِلَى وجوب الْعَمَل بِهِ مِنْهُم مَالك وَأهل الْمَدِينَة، وَأَبُو حنيفَة وَأهل الْعرَاق.
وَذهب فريق إِلَى أَنه يجب الْعَمَل بِهِ، وَمِنْهُم الشَّافِعِي وَغَيره.
وَقد يقبل الشَّافِعِي بعض الْمَرَاسِيل على مَا نفصل مذْهبه بعد ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
ثمَّ اخْتلف رد مَرَاسِيل التَّابِعين وتابعي التَّابِعين فِي مَرَاسِيل الصَّحَابَة، وَإِذا قَالَ الصَّحَابِيّ عَن رجل عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمنهمْ من يقبل ذَلِك مَعَ رده للمراسيل، وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ الطَّبَرِيّ، وَمِنْهُم من رد ذَلِك أَيْضا.
وَمِنْهُم من يقدم مَرَاسِيل الْكِبَار من الْأَئِمَّة على المسندات، وَيَزْعُم أَن الأمام لَا يُرْسل الحَدِيث إِلَّا مَعَ نِهَايَة الثِّقَة وَالصِّحَّة.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالَّذِي نختاره أَنه لَا يجب الْعَمَل بِشَيْء من الْمَرَاسِيل حسما للباب.
وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن نقُول: قد قدمنَا أَنه لَا تقبل رِوَايَة من لم تتبين عَدَالَته، وأوضحنا أَنا لَا نكتفي بالظواهر، فَإِذا أرسل الْمَرَاسِيل وَلم يتَعَرَّض لشيخه فَلَا تعرف عَدَالَته.
فَإِن قَالُوا: إِذا روى الْعدْل وَأطلق الرِّوَايَة فروايته تعديتل مِنْهُ وَهَذِه نُكْتَة المسألة فتأملها.
فَنَقُول: لسنا نسلم أَن رِوَايَته تَعْدِيل مِنْهُ، فَإِن الْعدْل قد يروي عَن الْعدْل وَقد يروي عَمَّن لم يعلم عَدَالَته وَلَا الطعْن فِيهِ، وَهَذَا مطرد فِي رِوَايَة الْأمة، حَتَّى قد يروي الإِمَام عَن شيخ فيتساءل عَنهُ فيبدي جَهله بِحَالهِ، وَلَو كَانَ الْإِمْسَاك عَن الْجرْح تعديلا كَانَ الْإِمْسَاك عَن التَّعْدِيل جرحا.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الشَّاهِد إِذا شهد على شَهَادَة غَيره فَأَطْلقهُ وَلم يمسهُ لم يكتف مِنْهُ بِإِطْلَاق حَتَّى يُسَمِّيه ويخبر عَدَالَته، وَإِن كَانَ إِطْلَاقه الشَّهَادَة على زعمكم ينبىء عَن تَعْدِيل الشَّاهِد أصل.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنه لَو كَانَت رِوَايَته تعديلا لَكَانَ ترك الْعدْل الرِّوَايَة عَن بعض النَّاس جرحا مِنْهُ، وإخراجا لَهُ عَن كَونه مرضيا فِي الرِّوَايَة.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَيْضا أَن الْمعدل لَو سُئِلَ عَن الرَّاوِي فَسكت عَنهُ فَلَا يَجْعَل سُكُوته جرحا وَلَا تعديلا، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه، على أَنا نقُول أَكثر مأمولكم أَن تقدروا رِوَايَة الْعدْل تعديلا، وَلَو أَنه أرسل وَصرح بتعديل شَيْخه مُطلقًا من غير تَسْمِيَة إِيَّاه، فَلَا يقبل أَيْضا فَإِنَّهُ لم يسمه، فقد يعرفهُ عدلا وَلَو ذكره لعرفه غَيره بجرحه، فَبَطل مَا عولوا عَلَيْهِ من كل وَجه.
فَإِن قَالُوا: قد استشهدتم فِي أثْنَاء كلامكم بِالشَّهَادَةِ، وَلَا يَصح الاستشهاد بهَا، فَإِن الْأَمر فِيهَا أغْلظ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنَّهَا تخْتَص بِعَدَد وَلَفظ مَخْصُوص، بِخِلَاف الرِّوَايَة.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه لَا يبل من الشَّاهِد على الشَّهَادَة أَن يَقُول: سمعته يَقُول، أَو يَقُول: سَمِعت فلَانا عَن فلَان فَيشْهد على رتبتين بالعنعنة، وكل ذَلِك سَائِغ فِي الرِّوَايَة.
قُلْنَا: كل مَا ذكرتموه لَا يُوجب الْفَصْل بَين الشَّهَادَة وَالرِّوَايَة فِي الْعَدَالَة، فَإِن وَجه الْبَحْث عَن عَدَالَة الروَاة كوجه الْبَحْث عَن عَدَالَة الشُّهُود، وَمَا ذكرتموه لَا يُوجب الْفَصْل فِي هَذَا الحكم.
وقيل لَهُ اخْتصّت الشَّهَادَة بِالْعدَدِ وَاللَّفْظ بِمَا لَا يتَعَلَّق بِالْعَدَالَةِ فَلم يقْدَح مَا ذكرتموه من الفروق فِي الْوَصْف الْمَطْلُوب.
فَإِن قَالُوا: إِذا قَالَ الرَّاوِي أخبرنَا زيد عَن عَمْرو فَيجوز أَن يَقُول أخبرنَا رجل عَن سَمَاعه من عَمْرو، فَأَما قَوْله عَن عَمْرو فمتردد بَين الْإِسْنَاد والإرسال، وَلَيْسَ بمصرح بِهِ فِي الْإِسْنَاد وَمَعَ ذَلِك هُوَ مَقْبُول.
فَنَقُول قد تواضع أهل الصَّنْعَة من الروَاة والنقلة فِي العنعنة فِي الرِّوَايَات لما طَالَتْ الْأَسَانِيد وَكَثُرت الْأَسْمَاء، وَلَو ذكرُوا بَين كل اسْمَيْنِ لفظا مُصَرحًا بِهِ فِي اقْتِضَاء السماع لتضعف الدفاتير وَثقل الْأَمر وَكَذَلِكَ آثروا فِي الْكِتَابَة الِاقْتِصَار على رقم فِي أخبرنَا وَحدثنَا فقد أعلمونا بتواضعهم أَن كل شَخْصَيْنِ جَمعهمَا عصر، واتصل بَينهمَا الْإِسْنَاد بعن فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ السماع، حَتَّى لَو ذكر ذَاكر هَذِه اللَّفْظَة وَلم يكن قد سمع عد مدلسا، حَتَّى قَالَ المحقون من أصحابنَا: لَو تبين لنا فِي بعض الْأَعْصَار إِطْلَاق العنعنة عَن غير سَماع تجنبناها وَلم نقتصر على الْإِطْلَاق بهَا.
فَإِن اسْتدلَّ من نَص وجوب الْعَمَل بالمراسيل من الْأَحَادِيث بِأَن قَالَ: أَجمعت الصَّحَابَة على قبُول الْمَرَاسِيل، وَكَذَلِكَ التابعون. وإيضاح ذَلِك أَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ أَكثر الرِّوَايَة حَتَّى زَادَت رواياته على رِوَايَة من كثرت صحبته، وامتدت فِي معاصرة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مدَّته، وَمَا كَانَ قد أدْرك من زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا الْقَلِيل حَتَّى يرْوى أَنه لم ينْقل من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا أَرْبَعَة أَحَادِيث وتلقى الْبَاقِي من الصَّحَابَة، ثمَّ كَانَ يُطلق الرِّوَايَة، وَكَانَ ابْن عمر وَغَيرهمَا من أَحْدَاث الصَّحَابَة، حَتَّى رُوِيَ أَن ابْن عَبَّاس سُئِلَ عَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم «لَا رَبًّا إِلَّا فِي النَّسِيئَة» فَقَالَ حَدثنِي بِهِ أُسَامَة بن زيد.
وَلما رُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يزل يُلَبِّي فِي حجه حَتَّى رمى جَمْرَة الْعقبَة، فَلَمَّا استكشف فِي ذَلِك قَالَ: حَدثنِي بِهِ أخي الْفضل. وَكَذَلِكَ ابْن عمر روى مُطلقًا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: من صلى على جَنَازَة فَلهُ قِيرَاط الحَدِيث ثمَّ تبين أَنه رَوَاهُ عَن أبي هُرَيْرَة.
وروى أَبُو هُرَيْرَة أَنه قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أصبح جنبا أفطر، فَلَمَّا نُوقِشَ فِي ذَلِك قَالَ أَخْبرنِي بِهِ الْفضل بن عَبَّاس.
وَيكثر ذَلِك فِي التَّابِعين أَيْضا. وَمَوْضِع الِاسْتِدْلَال أَن الصَّحَابَة علمُوا قلَّة سَماع ابْن عَبَّاس من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإكثاره الرِّوَايَة وَكَذَلِكَ علم التابعون ذَلِك وقبلوا رواياته. فَنَقُول: إِن كَانَ استدلالكم بإرسال هَؤُلَاءِ فَلَا مستروح فِيهِ، فَإِن من لَا يَقُول بالمراسيل قد يُرْسل الحَدِيث.
ثمَّ لَو كَانَ الْإِرْسَال دَلِيلا على القَوْل بالمرسل فَإِنَّمَا أرسل الْأَحَادِيث أَقوام لَا يُمكن دَعْوَى الْإِجْمَاع من أهل الْعَصْر فِيهِ، فَإِن كَانَ الِاحْتِجَاج بِمَا أطلقهُ ابْن عَبَّاس فَوجه الْخطاب أَن نقُول: رُبمَا يتَّفق السماع الْكثير فِي الْمدَّة الْيَسِيرَة وَمَا ذكرتموه انه لم يسمع إِلَّا اربعة أَحَادِيث فَهَذَا بهت عَظِيم، فَإنَّا نعلم أَن من كَانَ لَهُ همة فِي نقل الشَّرِيعَة فيزيد مسموعه فِي الْيَوْم الْوَاحِد أَرْبَعَة أَحَادِيث سِيمَا فِي حق من قَوْله وَفعله وسكوته شرع، وَلَو حصرنا من وَقت تَمْيِيزه إِلَى وَفَاة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لبلغ سِنِين عدَّة، فَبَطل مَا قَالُوهُ.
وَأما مَا رَوَوْهُ من الْإِرْسَال فِي الحَدِيث والحديثين فمما لَا تقوى بِهِ الْحجَّة فِي مناقشة. إِذْ الدَّلِيل قد دلّ ترك الْإِجْمَاع على الْعَمَل بالمراسيل، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه، وَلم يستقم ادِّعَاء الْإِجْمَاع لنا.
وَإِن قبلنَا مَرَاسِيل الصَّحَابَة واكتفينا فِي تعديلهم لتعديل الله إيَّاهُم فَيَكْفِي مُؤنَة السُّؤَال.
وَمِمَّا استدلوا بِهِ مَا ذَكرْنَاهُ من خلال اسئلة وَهُوَ أَنهم قَالُوا: إِذا قَالَ الْعدْل: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «فَلَا يجوز إِطْلَاق ذَلِك إِلَّا مَعَ الْعلم الظَّاهِر باتصال النَّقْل». فَإِن الَّذِي فِي الْوسط لَو كَانَ معلولا لَكَانَ لَا يَلِيق بِالْعَدْلِ الثِّقَة وَالْحَالة هَذِه إِطْلَاق الِاتِّصَال. وَهَذَا مَا تقصينا عَنهُ، وَبينا أَنه رُبمَا يعْتَقد ذَلِك أحدا بِظَاهِر الْحَال دون الْبَحْث عَن الْعَدَالَة، كَمَا صَار إِلَيْهِ بعض الْعلمَاء، وَرُبمَا مَا يرَاهُ عدلا وَغَيره بجرحه لَو أظهره، وَالْجرْح أولى من الْعَدَالَة، كَيفَ وَقد روى أَن الزُّهْرِيّ وَهُوَ إِمَام الصَّنْعَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا كوشف فِيمَن أخبرهُ قَالَ أَخْبرنِي بِهِ رجل على بَاب مَرْوَان لَا أعرفهُ.

.فصل:

قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ: لَا تقبل الْمَرَاسِيل إِلَّا إِذا تجمعت فِيهَا أَوْصَاف وعدها فِي الرسَالَة. وَكلهَا مدخولة عِنْد القَاضِي.
فمما ذكره الشَّافِعِي رَحمَه الله من الْأَوْصَاف أَن يكون الَّذِي رَوَاهُ الْعدْل مُرْسلا قد رَوَاهُ غيره مُسْندًا.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَهَذَا مَا لَا وَجه فِي اشْتِرَاطه، فَإِنَّهُ إِذا روى مُسْندًا من وَجه فَلَا حَاجَة إِلَى الْمُرْسل، وَإِن كَانَ الْمسند دَلِيلا على صِحَة الْمُرْسل كَانَ ذَلِك بَاطِلا.
وَإِن مَا لَا يصلح على حياله، وَكَذَلِكَ لَو وَافقه خبر، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ الرِّوَايَة عَن الضَّعِيف، فَإِنَّهُ لَا يحكم بِصِحَّتِهِ وَإِن وَافقه خبر عدل.
وَمِمَّا شَرطه الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَن قَالَ: يَنْبَغِي أَن يُوَافق إرْسَاله إرْسَال غَيره فتتفق طَائِفَة من الْحفاظ على الْإِرْسَال. وَهَذَا فِيهِ نظر أَيْضا فَإِن الْإِرْسَال ضَعِيف فِي طرق الحَدِيث وَكَثْرَة الْإِرْسَال لَا يُوجب تقويته، وَهَذَا كَمَا أَن الرِّوَايَة عَن الضَّعِيف لما لم يُوجب الْعَمَل فَكَذَلِك الرِّوَايَة عَن جمَاعَة من الضُّعَفَاء، فَلَو كَانَ إرْسَال الْجَمَاعَة يُؤثر فِي الْقبُول لَكَانَ يَقع الاجتزاء بالرواية الْوَاحِدَة.
وَمِمَّا شَرطه الشَّافِعِي أَن قَالَ: الحَدِيث الْمُرْسل إِذا عاضده مَذَاهِب الْعَامَّة فَهُوَ مِمَّا يقويه، فَقَالَ لَهُ: إِن عنيت بالعامة الْعلمَاء عَامَّة، فكأنك شرطت الْإِجْمَاع فِي قبُول الْمَرَاسِيل وَإِذا ثَبت الْإِجْمَاع اسْتغنى عَن الْمُرْسل، وَإِن أومىء بذلك إِلَى مَذَاهِب الْعَوام، فَهُوَ أجل قدرا من أَن تظن بِهِ ذَلِك، فَإِن الْعَوام لَا مُعْتَبر لَهُم فِي وفَاق وَلَا خلاف وَإِنَّمَا الْمُعْتَبر بِخِلَاف الْعلمَاء واتفاقهم، وَإِن عَنى بِمَا قَالَه مُعظم الْعلمَاء، فَهُوَ مَدْخُول أَيْضا فَإِن مصير الْمُعظم مَعَ تَقْدِير الْخلاف إِلَى مَذْهَب لَا يكون حجَّة وَلَو وَجَاز تَقْوِيَة الْمُرْسل بذلك لجَاز تَقْوِيَة الرِّوَايَة عَن الضَّعِيف بذلك.
وَمِمَّا شَرطه ايضا أَن يُوَافق الْمُرْسل مَذْهَب بعض الصَّحَابَة.
وَهَذَا فِيهِ نظر ايضا فَإِن الصَّحَابِيّ كَغَيْرِهِ فِي أَنه لَا يحْتَج بقوله، فَهَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي الْجد.
ثمَّ قَالَ الشَّافِعِي: إِذا اجْتمعت هَذِه الْأَوْصَاف فاستحب قبُوله وَهَذَا هُوَ مَدْخُول أَيْضا فَإِن مَا كَانَ بِمحل الْقبُول يجب أَن يقبل وَمَا لم يكن بِمحل الْقبُول لَا يحل لنا أَن نقبل، فَلَا معنى للاستحباب.
ثمَّ من أصحاب الشَّافِعِي من يسند إِلَيْهِ تَخْصِيص الْقبُول بمراسيل سعيد بن الْمسيب، وَهَذَا مَا لَا يَصح عَنهُ، وَإِنَّمَا الصَّحِيح عَنهُ أَن مَا استجمع هَذِه الْأَوْصَاف فَهُوَ بِمحل الْقبُول.
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَن لَا يغْفل عَنهُ أَن نعلم أَن الْكَلَام فِي الْمَرَاسِيل نفيا وإثباتا لَيْسَ من القواطع وَإِنَّمَا هُوَ من المجتهدات، هَكَذَا قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ.

.فصل:

من أسْند حَدِيثا قد أرْسلهُ غَيره فَيقبل إِذا كَانَ بِحَيْثُ لَو انْفَرد قبل، وَذهب بعض الغلاة فِي رد الْمَرَاسِيل إِلَى أَن مَا أسْندهُ عدل فَلَا يجب الْعَمَل بِهِ إِذا ارسله عدل آخر، وَهَذَا سَاقِط من القَوْل، وَذَلِكَ أَن الْإِرْسَال لَا يضعف الْإِسْنَاد وَلَا يزِيد فِي الْإِرْسَال رُتْبَة على الرِّوَايَة عَن ضَعِيف، وَلَو رُوِيَ عدل خَبرا عَن عدل وَرَوَاهُ عدل آخر عَن مطعون فَالرِّوَايَة عَن المطعون لَا يُوجب رد حَدِيث الْعدْل عَن الْعدْل.

.باب فِي مَا يقبل فِيهِ خبر الْوَاحِد وَفِي مَا لَا يقبل ذَلِك فِيهِ، وَوجه الْخلاف فِيهِ وتبيين الْأَصْلَح:

اعْلَم، وفقك الله، أَن كل مَا يطْلب الْعلم فِيهِ فَلَا يقبل فِيهِ أخبارالآحاد، فَإِنَّهَا لَا تَقْتَضِي، وَإِنَّمَا يثبت بِدلَالَة قَاطِعَة وجوب الْعَمَل بهَا.
فَإِن قيل: فَهَلا قُلْتُمْ: إِن خبر الْوَاحِد يُوجب الْعلم من حَيْثُ أَنه يُوجب الْعَمَل، فَإنَّا إِذا علمنَا أَنه يُوجب الْعَمَل فقد أوصلنا إِلَى ضرب من الْعلم.
قُلْنَا: هَذَا خطأ، فَإنَّا لَا نعلم وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد بِعَين خبر الْوَاحِد وَإِنَّمَا نعرفه بِالدّلَالَةِ القاطعة الْمُقْتَضِيَة وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد، فَلم يحصل الْعلم بالْخبر إِذا، وَإِنَّمَا يحصل بِالدَّلِيلِ الدَّال عَلَيْهِ وَهُوَ مَقْطُوع بِهِ، فَاعْلَم ذَلِك، فَخرج لَهُ من هَذِه أَن خبر الْوَاحِد لَا يقبل فِي العقليات واصول العقائد وكل مَا يلْتَمس فِيهِ الْعلم.
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَن نعلمهُ أَن الْخَبَر قد ينْقل آحادا فَيقطع بكذبه، وَذَلِكَ يتَحَقَّق فِي منَازِل مِنْهَا أَن من نقل شَيْئا استمرت الْعَادة شيوعه وذيوعه لَو كَانَ صدقا حَقًا فَإِذا انْفَرد بِهِ الْوَاحِد لم يُتَابِعه عَلَيْهِ عدد التَّوَاتُر فَهُوَ كذب، وَهُوَ مجوز أَخْبَار الْآحَاد عَن موت خَليفَة أَو فتْنَة عَامَّة استمرت الْعَادة بانتشارها.
وَمن هَذَا الْقَبِيل ايضا نقل معجزات الرُّسُل إِذا صدرت عَن مَلأ مصدر الإشاعة وإذاعة الدعْوَة، وَهَذَا مِمَّا سبق استقصاء القَوْل فِيهِ، وَمِمَّا يجب أَن ينْقل متواترا مَا كَرَّرَه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عودا على بَدْء قولا وفعلا ودعا الكافة إِلَيْهِ نَحْو أصل الصَّلَوَات الْخمس وَاصل الزَّكَاة وَالْحج.
وَالَّذِي يجمع مَا قُلْنَاهُ أَن يكون الْمَنْقُول مَا تَقْتَضِي الْعَادة فِي استمرارها نَقله تواترا واستفاضة.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا قَوْلكُم فِي الْأَخْبَار فِيمَا تعم الْبلوى هَل تقبلون فِيهِ أَخْبَار الْآحَاد؟
قُلْنَا: مَا صَار إِلَيْهِ القدماء من الْعلمَاء وجوب قبُول الْأَخْبَار فِيمَا تعم فِيهِ الْبلوى، وَلم يؤثرمحى فِي ذَلِك خلاف إِلَّا عَن الْكَرْخِي وَطَائِفَة من متأخري أصحاب أبي حنيفَة رَحمَه الله فَإِنَّهُم قَالُوا لَا يقبل خبر الْوَاحِد فِيمَا تعم الْبلوى نَحْو الَّذِي يتَعَلَّق بالصلوات فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة والطهارات وَنَحْوهَا، وتوصلوا بِهَذَا الأَصْل إِلَى رد خبر بسرة بنت صَفْوَان فِي مس الذّكر، وَغَيره من الْأَخْبَار، وَهَذِه قَاعِدَة عَظِيمَة أجترأوا عَلَيْهَا. وَالَّذِي يُوضح الْحق فِيهَا أَن نقُول هَل تجوزون صدق الرَّاوِي الْوَاحِد فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى أم تقطعون بكذبه فَإِن جوزتم صدقه فَلَيْسَ الْمَطْلُوب الْعلم وَإِنَّمَا الْمَطْلُوب الْعَمَل فَمَا الَّذِي يمْنَع من قبُول خَبره مَعَ كَونه موثوقا بِهِ.
فَإِن قَالُوا لِأَن مَا تعم بِهِ الْبلوى يكثر السُّؤَال عَنهُ لعُمُوم الْحَاجة فِيهِ، ثمَّ كَثْرَة السُّؤَال يُفْضِي إِلَى كَثْرَة النَّقْل.
قُلْنَا: فافطعوا على مُوجب ذَلِك بكذبه كَمَا يقطع بكذب من انْفَرد بِنَقْل موت الْخَلِيفَة والحريق الْعَام لأقليم من الأقاليم وَنَحْوهَا مِمَّا يشيع ويذيع، فَلَمَّا لم تقطعوا بكذبه بَطل مَا قلتموه، وَالَّذِي يُوضح الْحق فِي ذَلِك ان نقُول: لَو يَصح مَا قلتموه لوَجَبَ أَن يثبت كل مَا تعم بِهِ الْبلوى شَائِعا حَتَّى لَا يبْقى حكم فِي حَادِثَة تعم بِهِ الْبلوى إِلَّا وَقد نقل عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تواترا كَمَا نقل فِي مُسْتَقر كل أَمر يتَكَرَّر على النَّاس فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة مرَارًا، فَلَمَّا ثَبت مُعظم الْأَحْكَام فِي المجتهدات فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى وَفِيمَا لَا تعم، صَحَّ بذلك بطلَان مَا قلتموه.
وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَنكُمْ قبلتم الأقيسة فِيهَا وَإِن لم تقبلُوا فِيهَا الْأَخْبَار، فَلَو كَانَ الْمطلب فِيهِ قطع كَمَا رمتموه لما قبل فِيهِ قِيَاس الشّبَه، فَإِن الْقيَاس السمعي لَيْسَ مِمَّا يسْتَدرك عقلا وَلَكِن مستنبطه يثبت عِنْده بِغَلَبَة الظَّن أَن الَّذِي استنبطه قِيَاسا مِمَّا نَصبه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحكم تَصْرِيحًا وتنبيها، فَإِذا جَازَ أَن تقبل مَا فِيهِ توقع النَّقْل فَلَنْ يجوز ذَلِك فِيمَا نَقله الثِّقَات أولى.

.باب ذكر مَا يدْخلهُ التَّرْجِيح من الْأَلْفَاظ، وتبيين رتب التَّرْجِيح:

اعْلَم وفقك الله: أَن الْأَلْفَاظ الثَّابِتَة عَن صَاحب الشَّرِيعَة منقسمة، فَمِنْهَا مَا ثَبت قطعا كالأخبار المستفيضة المتواترة الْمُوجبَة للْعلم، فَإِذا تقَابل خبران من هَذَا الْقَبِيل وتعارضا فَلَا وَجه فيترجيح أَحدهمَا على الاخر، ليتقدر التَّرْجِيح ثَانِيًا، وَالْآخر سَاقِطا، فَإِن الْمَقْصُود من التَّرْجِيح جلب غَلَبَة الظَّن بِضَرْب من التَّلْوِيح فِي أحد الْخَبَرَيْنِ، وَلَا يتَحَقَّق ذَلِك فِيمَا يَقْتَضِي الْعلم من الْأَخْبَار، فَإِن كل وَاحِد من الْخَبَرَيْنِ إِذا نقل استفاضة وَعلمنَا ثُبُوته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قطعا فَلَا معنى للتمسك بالترجيح ليتوصل بِهِ إِلَى تَقْوِيَة أَحدهمَا، فَإِن كل شَيْئَيْنِ، يَقْتَضِي كل وَاحِد مِنْهُمَا الْعلم، لَا يتَحَقَّق فِي الْمَعْقُول أَن يكون أحد العلمين الثابتين مرجحا على الثَّانِي، فَإِن الْعلم بالشَّيْء لَا يتَفَاوَت فِي كَونه علما بِهِ. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن غلبات الظنون يضاد الْعُلُوم، فَلَا يتَصَوَّر أَن تعلم شَيْئا وَأَنت على غَالب ظن فِيهِ، وَالتَّرْجِيح لَا يُفِيد فِي مجْرى الْعَادة إِلَّا غلبات الظنون، فَبَطل التَّرْجِيح فِي خبر يَقْتَضِي الْعلم، وَلَكِن إِن كَانَا مؤرخين تمسكنا بالمتأخرين مِنْهُمَا وَإِن كَانَا مطلقين وَقد أَجمعت الْأمة على اسْتِحَالَة الْجمع بَينهمَا فَلَا يجوز الِاسْتِدْلَال بِوَاحِد مِنْهُمَا، وَإِن اتّفقت الْأمة على أَن الحكم لَا يعدوهما وَقد الْتبس الْأَمر وأشكل فقد قدمنَا من ذَلِك فِي تعَارض العمومين مَا فِيهِ متسع.
وَالضَّرْب الثَّانِي من الْأَخْبَار الْآحَاد الَّتِي لَا يُوجب الْعلم، فَإِذا تعَارض اثْنَان مِنْهُمَا، وَأمكن الْجمع بَينهمَا بِضَرْب من التَّأْوِيل، أَو لم يكن الْجمع بَينهمَا فَيجوز تَرْجِيح أَحدهمَا على الثَّانِي بِمَا يغلب الظَّن فِي صِحَّته وثبوته وَإِن كَانَ لَا يُفْضِي بِنَا إِلَى الْعلم.
وَالدَّلِيل على ذَلِك الْإِجْمَاع أَولا، فَإِن الْقَائِلين بأخبار الْآحَاد أَجمعُوا على تَرْجِيح بَعْضهَا على بعض، والتمسك بِمَا يتقوى بالترجيح.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الصَّحَابَة مَا زَالَت فِي عصرها ترتاد غلبات الظنون فِيمَا ينْقل لَهُم من الْأَخْبَار، حَتَّى كَانُوا يَلْتَمِسُونَ ذَلِك بطرق، فَرُبمَا كَانُوا يَلْتَمِسُونَ فِي الْأَحَايِين بِعَدَد الرَّاوِي، فيروي الْوَاحِد وهم على ريث ومهل، فينضم إِلَيْهِ راو آخر فيرون الحكم وَكَانُوا يقدمُونَ نقل من ظَهرت ثقته، ويرون أَن التَّمَسُّك بِمَا لَا يخْتَص الرِّجَال بالاطلاع عَلَيْهِ - نَحْو التقاء الختانين، وَغَيره - بروايات أَزوَاج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أولى، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا اعتبروه واعتبره التابعون، فَثَبت ذَلِك إِجْمَاعًا.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك جَوَاز التَّمَسُّك بِكَثْرَة الْأَشْبَاه فِي استنباط الْقيَاس، وَإِن كَانَت لَا تُفْضِي إِلَّا إِلَى غلبات الظنون.
فَإِن قيل: فَيجب أَن تعتبروا التَّرْجِيح فِي الشَّهَادَات أَيْضا، حَتَّى إِذا شهد شَاهِدَانِ على شَيْء وقابلها شُهُود على ضِدّه فترجح شَهَادَة الشُّهُود إِذا كثر عَددهمْ.
قُلْنَا: لَا نصير إِلَى ذَلِك إِجْمَاعًا ونصير إِلَى تَرْجِيح الْأَخْبَار إِجْمَاعًا.
فَإِن قيل: إِذا كَانَ التَّرْجِيح لَا يُفِيد علما فَأَي فَائِدَة فِي التَّمَسُّك بِهِ؟
قُلْنَا: فَأصل نقل الْآحَاد لَا يُفِيد علما أَيْضا، وَإِن ثَبت بِالدّلَالَةِ القاطعة التَّمَسُّك بِهِ.
فَإِن قيل: فلسنا نعقل ظنا أغلب من ظن.
قُلْنَا: هَذَا الْآن بهت مِنْكُم فَإنَّا نعلم بديهة أَن الْإِنْسَان قد يغلب شَيْء على ظَنّه حَتَّى لَا يكَاد يتزايد ذَلِك وَهُوَ يُدْرِكهُ من نَفسه.
وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن الْمُفْتِي إِذا نظر إِلَى الْمسَائِل المجتهدة فيجد بَعْضهَا أوضح من بعض، وَإِن كَانَ لَا يتَمَسَّك بِالْيَقِينِ فِي شَيْء مِنْهَا.
فَإِن قيل: فَهَل يجوز فِي الْعقل أَن لَا يتَمَسَّك بالترجيح.
قُلْنَا: يجوز ذَلِك، وَلَوْلَا مَا دلّ شرعا وسمعا على ذَلِك لما توصلنا إِلَيْهِ عقلا.

.فصل:

إِذا تقَابل خبران نقلاجميعا استفاضة وتواترا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يسْبق ثمَّ تَرْجِيح اصل أحد الْخَبَرَيْنِ على الآخر، كَمَا قدمْنَاهُ فِي صدرالباب، وَلَكِن يجوز أَن يتَمَسَّك بِمَا يَقْتَضِي تَرْجِيح أح العلمين بِمُوجب أحد الْخَبَرَيْنِ على الثَّانِي، بِأَن يجده اقْربْ إِلَى أصُول الْأَدِلَّة ومواقع الشَّرْع، وَيكون ذَلِك تَرْجِيح أحد العلمين على الثَّانِي، وَلَا يكون تَرْجِيح أحد الْخَبَرَيْنِ. وافضل من الضدين من الترجيحين فَهَذَا إِثْبَات أصل التَّرْجِيح.

.القَوْل فِيمَا يَقع بِهِ أحد الْخَبَرَيْنِ اللَّذين نقلا آحادا على الثَّانِي:

فَمَا يَقع بِهِ التَّرْجِيح كَثْرَة الروَاة فِي أحد الْحَدِيثين وقلته فِي الآخر، مَعَ تَسَاوِي الروَاة فِي الْعَدَالَة والثقة.
ويحكى عَن بعض أصحاب أبي حنيفَة أَنه لَا يرى ذَلِك تَرْجِيحا. ويستدل بعادات أصحاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُم استظهروا بِالْعدَدِ فِي كثير من الْأَخْبَار، حَتَّى روى الْمُغيرَة مِيرَاث الْجدّة، فَلم يبرم الصّديق رَضِي الله عَنهُ الحكم، حَتَّى رَوَاهُ مُحَمَّد بن مسلمة فَقضى بِهِ حِينَئِذٍ.
وَأَيْضًا فَإِن الْمَقْصُود من التَّرْجِيح غلبات الظنون، وَالْخَبَر إِذا رَوَاهُ جمَاعَة من الْأَئِمَّة فثبوته وَضَبطه اقْربْ إِلَى الْقُلُوب.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن أحد الراويين لَو كَانَ اشْتهر بِالْعَدَالَةِ والثقة فَلَا خلاف إِن التَّمَسُّك بِهِ أولى.
فَإِن تمسكوا بِالشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ لَا يرجح حكمهَا بِالْعدَدِ.
قُلْنَا: وَكَذَلِكَ لَا يرجح أحد الْبَيِّنَتَيْنِ على الْأُخْرَى، وَإِن كَانَت أظهر الثِّقَة وَالْعَدَالَة، وايضا فَإِن فِي الشَّهَادَة عددا مضبوطا محصورا شرعا لَا حكم للزِّيَادَة عَلَيْهِ.
وَمن اسباب التَّرْجِيح أَن يكون أحد الراويين اضبط وأتقن فِي الرِّوَايَة وَأشهر فِي الْعَدَالَة.
وَمِنْهَا أَن يكون أحد الراويين مباشرا لنَفس الْقِصَّة، أَو يكون صَاحب الْقِصَّة، وَذَلِكَ نَحْو حَدِيث مَيْمُونَة، فَإِنَّهَا رَوَت أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزَوجهَا وَهِي حَلَال، وروى ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ محرما، فَكَانَت رِوَايَة مَيْمُونَة وَهِي صَاحِبَة الْقِصَّة أولى، وَكَذَلِكَ رِوَايَة أبي رَافع أولى من رِوَايَته، وَقد روى أَنه كَانَ حَلَالا، قَالَ: وَكنت السفير بَينهمَا فَلَمَّا باشرته الْقِصَّة ترجح رِوَايَته.
وَمِنْهَا: ان يكون متن أحد الْحَدِيثين مُسْتَقِيم اللَّفْظ وَالْمعْنَى، وَلَفظ الحَدِيث الثَّانِي مُضْطَرب فِي اللَّفْظ وَالْمعْنَى فينقل على أوجه متباينة، فَالَّذِي لم يتَحَقَّق ذَلِك فِيهِ أولى، لِأَن استقامة الْمَتْن تنبىء عَن ضبط الرَّاوِي.
فَإِن قَالُوا: فيلزمكم أَن لَا تقبلُوا الزِّيَادَة الَّتِي ينْفَرد بهَا الثِّقَة.
قُلْنَا: لَيست الزِّيَادَة من اضْطِرَاب الْمَتْن فِي شَيْء، وَلكنهَا تنزل منزلَة خبر آخر، على مَا قدمْنَاهُ.
وَمِنْهَا: ان يكون سَنَد أحد الْحَدِيثين سديدا لَا لبس فِيهِ، وَفِي إِسْنَاد الاخر لبس فِي تَفْصِيل الْأَسَامِي.
وَمِنْهَا: أَن يكون مَوضِع أحد الروايين أقرب من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا نَحْو حَدِيث ابْن عَمْرو فِي إِفْرَاد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحَج، مَعَ حَدِيث أنس فِي الْقرَان، وَعلمنَا بِقرب ابْن عَمْرو من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلذَلِك كَانَ يَقُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «ليليني ذَوُو الأحلام مِنْكُم والنهى».
وَمِنْهَا: أَن يكون أَحدهمَا قد سمع من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الحَدِيث بِغَيْر حجاب، فَهُوَ أولى من غَيره فَإِنَّهُ أبعد عَن اللّبْس، وَرُبمَا شَاهد من قَرَائِن الْأَحْوَال مَا ذهبت عَن صَاحبه.
وَمِنْهَا: ان يكون أَحدهمَا أحسن سياقا وتفصيلا للفظه نَحْو حَدِيث جَابر فِي نقل الأفراد، فَإِنَّهُ نقل اللَّفْظَة على وَجههَا، وساقها أحسن سِيَاق.
وَمِنْهَا: أَن تخْتَلف الرِّوَايَة على أحد الراويين، وَلَا تخْتَلف عَن الثَّانِي، ثمَّ اخْتلفت عبارَة أصحابنَا فِي ذَلِك، فَمنهمْ من يَقُول:
تتعارض الرِّوَايَتَانِ عَن أحدهم وتسقطان.
وَمِنْهُم من يَقُول لَا بل يرجح الحَدِيث الَّذِي لم تخْتَلف الرِّوَايَة فِيهِ، لكَونه أقرب إِلَى الضَّبْط وابعد عَن التَّرَدُّد.
وَمنا: أَن يكون أحد الْحَدِيثين مُوَافقا لظَاهِر الْكتاب فَهُوَ أولى من الَّذِي لَا يُوَافق الظَّاهِر.
وَمِنْهَا: ان يُوَافق أَحدهمَا مَعَاني آخر.
وَمِنْهَا: أَن ينْقل أَحدهمَا عَنهُ صَرِيحًا وَيكون فِي الثَّانِي تردد وَذَلِكَ مثل أَن يَقُول أحد الراويين سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يذكر لفظا ينبىء عَن صَرِيح سَمَاعه وَلَفظ الثَّانِي ظَاهر السماع، وَلَكِن فِيهِ التَّرَدُّد.
وَمِنْهَا أَن يكون أَحدهمَا قولا وفعلا وتقريرا فَإِنَّهُ أبلغ.
وَمِنْهَا: أَن يكون أَحدهمَا عَاما لم يدْخلهُ التَّخْصِيص، وَالثَّانِي قد دخله التَّخْصِيص من وَجه، فالتمسك بِالْعَام أولى.
وَمِنْهَا: أَن يكون أَحدهمَا مُطلقًا مُجَردا عَن سَبَب، وَيكون الثَّانِي واردا بِخُصُوص يجوز عَن قدر اخْتِصَاصه، وَيجوز أَن يقدر تعميمه.
وَمِنْهَا: أَن يتقوى أحد الْحَدِيثين بِالْإِجْمَاع فعلا فَهَذَا من اقوى الترجيحات، وَلَو اقْترن بِأحد الْحَدِيثين الْإِجْمَاع على صِحَّته وتصديق نَقله، فَيخرج ذَلِك عَن قبيل التَّرْجِيح، ويلتحق باقتضاء الْعلم وإيجابه.
وَمِنْهَا: ان يكون مَضْمُون أحد الْحَدِيثين مُسْتقِلّا بِنَفسِهِ، من غير تَقْدِير حذف وَلَا ضمير، وااثاني لَا يسْتَقلّ دون أَحدهمَا، فَالَّذِي لَا حَاجَة فِيهِ للإضمار والحذف اأولى.
وَقد اخْتلف أصحابنَا فِي مسَائِل:
مِنْهَا: أَن أحد الْحَدِيثين إِذا تضمن نفيا والْحَدِيث الثَّانِي يتَضَمَّن إِثْبَاتًا، فَمنهمْ من يَجْعَل الَّذِي يتَضَمَّن الْإِثْبَات أولى.
وَمَا اخْتَارَهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ أَن ذَلِك لَا يُوجب تَرْجِيحا، فَإِن النَّفْي مِمَّا يَصح نَقله، وَيقطع بِهِ كَمَا يَصح نقل الْإِثْبَات.
وَمِمَّا اخْتلف فِيهِ الْأصحاب أَيْضا أَن يعْمل أحد الراويين بِخَبَرِهِ دون الاخر.
فَمَا صَار إِلَيْهِ الْمُعظم أَن ذَلِك يُوجب تَرْجِيحا.
وَمَا اخْتَارَهُ القَاضِي أَنه لَا يَقع بِهِ التَّرْجِيح.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَمَا عندنَا أَنه لَا يَقع بِهِ التَّرْجِيح، فَإنَّا إِنَّمَا نرجح بِمَا يتَعَلَّق بِالنَّقْلِ من الضعْف والوهاء وَلَا معول على مَا لَا يتَعَلَّق بطرِيق النَّقْل.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن أهل الْأَعْصَار السَّابِقَة قبلت الْأَحَادِيث فِيمَا لَا مجَال للْقِيَاس فِيهِ، كَمَا قبلوها فِي مجَال الْقيَاس، وَلم يشرطوا زِيَادَة احْتِيَاط، فَهَذَا نَحْو قبولهم الْخَبَر الْمُشْتَمل على ضرب الْعقل على الْعَاقِلَة، إِلَى غَيره من أَمْثَاله.
وَمِمَّا اخْتلف فِيهِ الْأصحاب أَيْضا: أَن الْخَبَرَيْنِ إِذا ارقتضى أَحدهمَا حظرا وَالثَّانِي إِبَاحَة فَمنهمْ من قَالَ: الحاظر مِنْهُمَا أولى، أخذا بالأحوط. وَمِنْهُم، قَالَ كِلَاهُمَا، وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ، فان الِاحْتِيَاط لَيْسَ مِمَّا يتَعَلَّق بطرِيق النَّقْل، وَشرط مَا يتَمَسَّك بِهِ من الترجيحات أَن تكون مُؤثرَة فِي طَرِيق النَّقْل بقضية فِيهَا غلبات الظنون، على أَن الْإِبَاحَة رُبمَا يكون أحوط فِي بعض الْمنَازل. وَمِمَّا اخْتلفُوا فِيهِ أَيْضا: أَن أحد الْحَدِيثين إِذا تضمن دَرْء حد، وتضمن الثَّانِي إِيجَابه.